تعد منتجات الألبان من أكثر المواد الغذائية سرعة في التلف مما يجعلها في حاجة ماسة إلى تقنيات متطورة في التعبئة والتغليف تضمن الحفاظ على جودتها وسلامتها خلال مراحل الإنتاج والتوزيع وحتى وصولها إلى المستهلك. ومع التقدم المتسارع في مجالات التكنولوجيا وعلوم الأغذية برزت مفاهيم حديثة مثل “التغليف الذكي” الذي لا يقتصر على حماية المنتج فحسب بل يراقب حالته ويعطي مؤشرات آنية عن مدى صلاحيته.
إلى جانب ذلك تتجه الأنظار نحو “التغليف المستدام” كأحد الحلول البيئية الواعدة للحد من النفايات والتقليل من البصمة الكربونية المرتبطة بعمليات التغليف التقليدية. في هذا السياق يهدف هذا المقال إلى أستعراض أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا في مجال تعبئة وتغليف منتجات الألبان من تقنيات ذكية ومستدامة مع التركيز على دورها في تقليل الفاقد الغذائي وتحقيق الشفافية في سلسلة الإمداد وتسليط الضوء على بعض التطبيقات العملية لهذه الابتكارات في مصر.
مفهوم التغليف الذكي في صناعة الألبان
يشير مصطلح التغليف الذكي إلى أنظمة تعبئة متقدمة مزوَدة بمواد أو أجهزة استشعارية تسمح بمراقبة ظروف المنتج الغذائي أو البيئة المحيطة به وإيصال معلومات حول جودته وسلامته بشكل لحظي على خلاف التغليف التقليدي الذي يقتصر دوره على حماية الغذاء ميكانيكيا . التغليف الذكي يخبرنا عن حالة المنتج خلال التخزين والنقل وعند الاستهلاك. ويشمل ذلك استعمال مؤشرات كيميائية أو حيوية ومستشعرات فيزيائية وتقنيات تحديد الهوية بالترددات الراديوية (RFID) داخل أو على العبوة بحيث يمكن تتبع ومراقبة منتجات الألبان عبر سلسلة التوريد بكاملها.
هذه التقنيات تمكن المنتجين والموزعين والمستهلكين على حد سواء من الكشف المبكر عن أي انحراف في الظروف المثلى لحفظ المنتج مما يساعد في منع تلف الأغذية وتقليل حالات التسمم الغذائي إضافة إلى تعزيز إمكانية التتبع وضبط الجودة.
المؤشرات الزمنية الحرارية ( Time-Temperature Indicators – TTI)
تعد من أبرز أمثلة التغليف الذكي في قطاع الألبان. وهي ملصقات ذكية توضع على العبوة ويتغير لونها أو حالتها الفيزيائية مع مرور الوقت وبحسب التعرض لدرجة الحرارة لتعطي دليلا بصريا على مجمل الظروف الحرارية التي مرت بها العبوة منذ الإنتاج وحتى وصولها للمستهلك. على سبيل المثال إذا تجاوزت درجة حرارة الحليب المبستر الحد الآمن لفترة طويلة (نتيجة انقطاع سلسلة التبريد مثلا) يظهر المؤشر تغيرا لونيا واضحا ينبه إلى احتمال فساد المنتج وبهذه الطريقة تمكن مؤشرات الزمن-درجة الحرارة كلا من مزودي الخدمة والمستهلكين من التحقق من سلامة سلسلة التبريد بسهولة ما يرفع مستوى الثقة بجودة الحليب ويحمي الصحة العامة .
مستشعرات الفساد والجودة
هي عنصر آخر مهم في التغليف الذكي حيث تستجيب للتغيرات الكيميائية أو الميكروبية التي تطرأ على المنتج وتظهر إشارات يمكن قراءتها. على سبيل المثال طورت ملصقات ذكية تحتوي على مواد كاشفة تتغير لونيا حسب نسبة نواتج تحلل الغذاء أو مستويات الحموضة (pH) داخل العبوة.
في حالة الحليب تؤدي نشاطات الأحياء الدقيقة إلى خفض قيمة الـ pH عند فساده وعند حدوث ذلك فإن المستشعر الحيوي المدمج في العبوة يظهر تغيرا لونيا يشير بوضوح إلى فساد الحليب . كذلك هناك مؤشرات تعتمد على استشعار الغازات الناتجة عن التلف (مثل ثاني أكسيد الكربون أو الأمونيا) بحيث تتحول لونيا أو تصدر إشارة عند تجاوز تركيز هذه الغازات حدا معينا مما يسمح برصد الفساد قبل أن يشعر المستهلك بطعم أو رائحة غير مقبولة. ومن التقنيات ذات الصلة بالتغليف الذكي أيضا
تتبع سلسلة التبريد باستخدام الشرائح الإلكترونية وبطاقات الـ RFID . (Radio Frequency Identification)
تمكن هذه الشرائح المزودة بهوائيات صغيرة من جمع بيانات عن درجة الحرارة أو الرطوبة التي تعرضت لها كل عبوة أثناء التخزين والنقل ويمكن قراءة هذه البيانات عن بعد بطريقة لاسلكية. بعض هذه الأنظمة متصلة بمنصات إنترنت أو قواعد بيانات تتيح تتبع مسار عبوات الألبان من المصنع إلى نقاط البيع مع تسجيل أي انحراف حراري خلال الرحلة. بل إن بعض العبوات الذكية باتت تزوَد برموز QR ( Quick Response )أي “الاستجابة السريعة” يستطيع المستهلك مسحها بهاتفه الذكي للاطلاع على معلومات تتعلق بجودة المنتج وتاريخ إنتاجه وظروف نقله وحتى مصدر حليب الأبقار. هذه الشفافية التي تتيحها حلول التغليف الذكي تعزز ثقة المستهلك وتضمن التزام الجهات المنتجة بأعلى معايير الجودة والسلامة. و ينقسم التغليف الذكي عادة إلى نوعين متكاملين هما:
– التغليف الفعال (النشِط) :
يؤثر بشكل إيجابي في المنتج من خلال إطلاق مواد أو امتصاص أخرى (مثل ممتصات الأكسجين أو مطلقات المواد المضادة للميكروبات لإطالة عمر المنتج) .
-التغليف الذكي (المعروف بالتغليف المتفاعل) :
يراقب حالة المنتج ويعطي معلومات دون أن يؤثر مباشرة في تركيبته. فعلى سبيل المثال إضافة ماصة أكسجين داخل عبوة الجبن يعد تغليفا نشطا لأنه يحسن البيئة الداخلية للعبوة لمنع نمو العفن بينما وضع ملصق يتغير لونه عند ارتفاع ثاني أكسيد الكربون الناتج عن فساد الجبن هو تغليف متفاعل لأنه يكشف حالة المنتج دون التدخل فيها. في كل الأحوال تهدف هذه التقنيات المتقدمة مجتمعة إلى ضمان جودة وسلامة منتجات الألبان طوال فترة تداولها وتقليل المهدر منها عبر رصد أي مشكلة في الوقت المناسب.
الابتكارات الحديثة في التغليف المستدام لمنتجات الألبان
يشهد قطاع تعبئة الألبان حاليا تحولا جوهريا نحو تبني حلول تغليف تراعي الاستدامة البيئية نظرا للوعي المتزايد بتبعات النفايات البلاستيكية التقليدية على البيئة. تشمل التغليف المستدام عدة توجهات رئيسية من أبرزها تطوير مواد تعبئة قابلة للتحلل الحيوي أومصنوعة من مصادر متجددة والتوسع في استخدام عبوات قابلة لإعادة التدوير أو مصنعة من مواد معاد تدويرها وكذلك اعتماد أنظمة إعادة الاستخدام لتقليل إنتاج النفايات من المصدر. وفيما يلي نناقش بعض هذه الابتكارات
المواد القابلة للتحلل الحيوي ومصادر التغليف الخضراء:
ظهرت في السنوات الأخيرة بدائل بلاستيكية مصنوعة من مواد حيوية تتفكك طبيعيا بعد الاستخدام مما يخفف العبء عن مدافن النفايات مقارنة بالبلاستيك التقليدي. على سبيل المثال يعد حمض البولي لاكتيك (PLA) المستخلص من مصادر نباتية كنشا الذرة من أشهر المواد البوليمرية الحيوية المستخدمة الآن في التغليف. هذه المادة قابلة للتحلل تحت الظروف الصناعية المناسبة وتوفر أداء مقبولا لحماية الغذاء.
إضافة لذلك شهدت الصناعة عودة ملحوظة لاستخدام التغليف الورقي والكرتوني في منتجات الألبان كبديل للعبوات البلاستيكية فالألياف الورقية المعالجة يمكنها توفير حماية جيدة للحليب ومنتجاته مع كونها قابلة للتدوير والتحلل الحيوي بسهولة. ومن الأمثلة الواقعية قيام إحدى الشركات النمساوية بتطوير عبوات ألبان بيولوجية بالكامل تحت اسم “Naku” مصنوعة من حمض اللاكتيك المشتق من السكر والنشا النباتي وتمتاز هذه العبوات بأنها خالية من الملدّنات البلاستيكية الضارة وأخف وزنا بـ20 مرة من الزجاج وأرخص تكلفة بعشر مرات من البلاستيك التقليدي، فضلاً عن كونها قابلة للتحلل تمامًا بعد الاستخدام. كما أن العديد من شركات الألبان العالمية باتت تستبدل العبوات البلاستيكية التقليدية بمواد معاد تدويرها أو قابلة لإعادة التدوير فقد ظهرت توجهات لتحويل عبوات الزبادي من مادة البوليسترين (PS) صعبة التدوير إلى مادة البولي إيثيلين تيرفثالات (PET) القابلة لإعادة التدوير بشكل كامل استجابة لمتطلبات الاستدامة. إن اعتماد هذه المواد البديلة والصديقة للبيئة يعد محوريا لتقليل البصمة الكربونية لقطاع التعبئة والتغليف والحد من تراكم المخلفات غير القابلة للتحلل.
التغليف القابل لإعادة الاستخدام : يعد إعادة استخدام العبوات أحد المبادئ الجوهرية لاقتصاديات التدوير وإعادة التدوير (Circular Economy). في صناعة الألبان . ويعود مفهوم استخدام قوارير الحليب الزجاجية القابلة للإرجاع إلى الواجهة كحل مستدام يقلل من استهلاك العبوات أحادية الاستخدام. وتطبق عدة جهات منتجة للألبان في العالم هذا النظام عبر توفير عبوات زجاجية متينة ترد إلى المصنع بعد الاستخدام ليتم تعقيمها وإعادة تعبئتها بالحليب من جديد. وتشير تقارير محلية وعالمية إلى تزايد الاهتمام بهذا التوجه إذ سجلت بعض الأسواق ارتفاعا في استخدام العبوات القابلة للإرجاع كأسرع قطاعات التغليف المستدام نموا. بالطبع يتطلب تطبيق هذه النماذج وجود بنية تحتية داعمة لجمع العبوات وتنظيفها وتداولها بكفاءة إلى جانب وعي وقبول من المستهلكين إلا أن فوائدها البيئية الكبيرة تجعلها أحد الخيارات الواعدة لتحقيق الاستدامة في تعبئة الألبان.
تقنيات التغليف الذكي لتقليل الفاقد الغذائي
يرتبط مفهوم الاستدامة أيضا بالحد من هدر المنتجات الغذائية نفسها وليس المواد التغليفية فقط. هنا تبرز أهمية بعض حلول التغليف المتقدمة مثل التغليف النشِط (Active Packaging) الذي سبق ذكره في إطالة العمر الافتراضي للحليب ومشتقاته وبالتالي تقليل كميات المنتجات التي ترمى بسبب فسادها قبل الاستهلاك. على سبيل المثال يمكن تضمين ماصات الأكسجين أو مضادات الميكروبات داخل العبوة أو ضمن مادة الغلاف نفسها لتقليل تعرض الغذاء لعوامل التلف. يقوم ماص الأكسجين بسحب الأكسجين المتبقي في الفراغ العلوي لعبوة اللبن أو الجبن وبالتالي يمنع عمليات الأكسدة ونمو البكتيريا الهوائية التي تسبب التلف. وبالمثل قد تحتوي بعض أغلفة الجبن والألبان على طبقة مدمجة من زيوت عطرية طبيعية أو مركبات مضادة للجراثيم تطلَق ببطء لتثبيط نمو الميكروبات وإطالة فترة صلاحية المنتج. هذه الحلول تقلل من الفاقد الغذائي عبر إبقاء المنتج صالحا للاستهلاك فترة أطول مما هو معتاد بالتغليف التقليدي.
وتجدر الإشارة إلى ابتكار ملحوظ يتمثل في استخدام أغشية صالحة للأكل لتغليف الجبن أو تغطية سطح الألبان المخمرة والتي تصنع من بروتينات الحليب أو البوليمرات الحيوية الطبيعية. هذه الأفلام الصالحة للأكل تؤدي دور حاجز يمنع فقدان الرطوبة والتلوث الميكروبي ويمكن استهلاكها مع المنتج دون مخلفات. وفضلا عن تقنيات الإطالة العمرية يساهم التغليف الذكي في تقليل الهدر أيضا عن طريق تنبيه المستهلك لحالة المنتج الحقيقية ما يحد من رمي الألبان الصالحة بسبب تاريخ صلاحية تقريبي فقط أو الاشتباه الخاطئ في فسادها. فمتى ما توفرت معلومات موثوقة حول جودة الحليب سيقوم المستهلك باستهلاكه بدلا من التخلص منه احتياطا .
بهذا تكتمل دائرة الاستدامة من خلال تقنيات التغليف بمواد صديقة للبيئة تقلل مخلفات التغليف وأنظمة ذكية ونشطة تحافظ على الغذاء نفسه وتقلل إهداره.
تطبيقات التغليف الذكي والمستدام في مصر
يشهد قطاع الصناعات الغذائية في مصر اهتماما متزايدا بالتوجهات العالمية في مجالي التغليف الذكي والمستدام وإن كانت هذه التقنيات لا تزال في مراحلها الأولى من حيث التطبيق الواسع. فيما يلي بعض الأمثلة والمبادرات التي تعكس تبني هذه المفاهيم في السوق المصرية
إعادة تدوير عبوات الألبان واستثمارها
فيما يخص إعادة تدوير مواد التغليف شهدت مصر حديثا تعاونا بين شركات محلية وعالمية لإرساء نظم تدوير متكاملة. مثال ذلك الشراكة المعلنة عام 2025 بين شركة SIG Combibloc (مزودة حلول التغليف الكرتوني المعقم عالميا) وعدة جهات محلية مثل شركة Carta للصناعات الورقية وشركة TileGreen الناشئة لإطلاق أول نظام متكامل في مصر لتجميع وتدوير عبوات المشروبات الكرتونية المستخدمة (كتلك المستخدمة في تعبئة الحليب المعقم والعصائر) . في هذا النظام تقوم شركة متخصصة بجمع عبوات الكرتون المستعملة من المستهلكين ونقاط التجميع مع استخدام منصة مومنة بتقنية سلسلة الكتل لضمان الشفافية وتتبع كل خطوة . بعدها تفصل مكونات العبوة حيث تستخلص الألياف الورقية في مصنع ورق محلي لإعادة استخدامها في صناعة منتجات ورقية عالية الجودة بينما يتم تحويل خليط طبقات البلاستيك والألمنيوم (المستخرج من تلك العبوات) إلى مواد بناء مثل الطوب البلاستيكي عن طريق شركة TileGreen المصرية . تساهم هذه المبادرة الرائدة في تحويل مخلفات عبوات الألبان والعصائر إلى موارد ذات قيمة مما يعيد إدماجها في الاقتصاد بدلا من أن ينتهي بها الحال في القمامة أو البيئة. وإن نجاح مثل هذا النظام سيشجع على توسيع نطاقه ليشمل أنواعا أخرى من عبوات الأغذية ويمثل خطوة مهمة نحو بنية تحتية وطنية لإدارة مخلفات التغليف بشكل مستدام.
الختام
يمثل التغليف الذكي والمستدام في صناعة الألبان مجالا خصبا للتطوير والابتكار يجمع بين ضمان جودة المنتجات وسلامة المستهلكين من جهة وحماية البيئة وترشيد استخدام الموارد من جهة أخرى. ولقد أتاحت التقنيات الحديثة حلولا شاملة للتحديات التقليدية في سلسلة إنتاج وتوزيع الألبان. وتشير أحدث الأبحاث العالمية إلى نجاح هذه الحلول في تقليل نسب فساد المنتجات وتقليص بصمة التغليف الكربونية. ورغم أن تطبيق هذه الابتكارات ما زال محدودا في بعض الأسواق مثل مصر إلا أن هناك بوادر مشجعة متمثلة في تبني شركات محلية لممارسات التغليف المستدام ودخول مؤسسات بحثية على خط التطوير بتقنيات ملائمة للموارد والاحتياجات المحلية. من المتوقع خلال السنوات القليلة القادمة أن يتعاظم هذا الاتجاه مدفوعا بمتطلبات التصدير للأسواق العالمية التي تفرض معايير بيئية صارمة وبدعم من وعي المستهلك المصري المتنامي بأهمية الاستدامة. سيكون التكامل بين الحلول الذكية والحلول الخضراء في تعبئة الألبان مفتاحا لتحقيق معادلة صعبة لطالما سعى إليها القطاع الغذائي منتج آمن وطازج للمستهلك وعبوة قليلة الأثر على الكوكب. بهذا يساهم التغليف بابتكاراته الحديثة في بناء منظومة غذائية أكثر استدامة وأمانا للأجيال القادمة.
د / ناهد عبد المقتدر الوحش
باحث أول بقسم بحوث الألبان – معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية
أقرأ أيضا:
« زراعة أسيوط » تشن حملة لإزالة التعديات على الأراضي الزراعية بأبوتيج
«زراعة سوهاج»: إزالة 14 حالة تعدي على الأراضي الزراعية بأخميم و سوهاج
3 فرق إرشادية لتوعية المزارعين بكيفية مكافحة الآفات ودور التسميد بـ«زراعة قنا»