مع بداية عصر الثورة الصناعية حدثت تغيرات في مناخ كوكب الأرض ولكن منذ أواخر القرن الماضي تزايدت معاناة و أضرار المجتمعات البشرية في كافة أنحاء العالم من تلك التغيرات المناخية والتي أدت إلي تزايد ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة .
وبدورها أحدثت تلك التغيرات المناخية في زيادة ذوبان الثلوج المتواجدة في القطبين الشمالي والجنوبي وفوق الجبال وبالتالي زيادة ارتفاع مياه المحيطات والبحار و الأعاصير والفيضانات والسيول مما يهدد بغرق كثير من الجزر وشواطئ المدن الساحلية . كذلك أدت إلي انخفاض سقوط الأمطار في بعض مما يؤدي إلي نقص مياه الشرب وتدهور خصوبة التربة وارتفاع ملوحة المياه وزيادة الجفاف وانتشار ظاهرة التصحر وبالتالي تناقص الإنتاج النباتي والحيواني مما يزيد المجاعات في تلك المناطق وخاصة في شرق أفريقيا والصحراء الكبرى والشرق الأوسط وبدوره هجرة السكان إلي مناطق جديدة بحثا عن الغذاء وأماكن صالحة للسكن والعمل .
ولقد ساهم الإنسان في ظاهرة التغيرات المناخية والتي يتزايد تأثيراتها السلبية خاصة في الدول النامية مما يلحق بها مزيد من الفقر والجوع . وأرجع العلماء تلك التغيرات إلي ظاهرة الاحتباس الحراري نتيجة تزايد إنبعاثات غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان و أكاسيد النتروجين وغيرها والتي مصدرها أدخنة وعوادم السيارات والمحركات ومحطات توليد الطاقة واحتراق الغابات والمخلفات . وتتراكم تلك الغازات في الغلاف الجوي المحيط بالأرض وتحولها إلي ما يشبه الصوبة المغلقة ترتفع بداخلها درجات الحرارة باستمرار دون أن تتخلص منها .
تأثير التغيرات المناخية على المسطحات المائية في مصر
وأظهرت الدراسات أن ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة العربية مابين 2، 4 م5 سوف تحدث تأثيرات سلبية علي إنتاجية المحاصيل التي لا تتحمل ارتفاع درجات الحرارة مثل القمح . كذلك ارتفاع درجات الحرارة في مصر سوف تؤدي إلي زيادة التبخر من المسطحات المائية وبالتالي فقدان كميات كبيرة من المياه اللازمة للري مما يقلل القدرة علي التوسع في استصلاح الأراضي وبالتالي قلة الإنتاج الزراعي . كما أحدثت التغيرات المناخية التهام البحر المتوسط لبعض المناطق في السواحل الشمالية بالإضافة إلي ابيضاض الشعب المرجانية في البحر الأحمر . كذلك ارتفاع درجة ملوحة المياه في مناطق الدلتا وقلة الأمطار علي الساحل الشمالي مما أدي إلي تصحر آلاف الأفدنة في منطقة النوبارية .
ولذا توالت انعقاد المؤتمرات والاجتماعات علي مستوي العالم والتي تناولت التأثيرات السلبية للاحتباس الحراري علي صحة الإنسان والمياه والتربة والإنتاج النباتي والحيواني والسمكي بالإضافة إلي عرض المجهودات المتعلقة بتقليل تلك التأثيرات السلبية وذلك للحفاظ علي الحياة في كوكب الأرض .
دور التغيرات المناخية في انتشار الآفات الزراعية
وسوف نتناول التأثيرات المتعددة للتغيرات المناخية علي تواجد وانتشار الآفات الزراعية وبالتالي تأثيرها علي الإنتاج النباتي . حيث يرتبط نشاط وتعداد الآفات مع الظروف البيئية والمتمثلة في درجات الحرارة والرطوبة والضوء والرياح و الأمطار والضغط الجوي بالإضافة إلي التربة وتواجد العوائل النباتية المفضلة والأعداء الحيوية . وفي العقود الأخيرة أدت التغيرات المناخية إلي زيادة دفء فصل الشتاء وبالتالي استمرارية تواجد العديد من الآفات في الشتاء . ومثال لذلك ديدان الأوراق والثمار والذبابة البيضاء و نافقات الأوراق و الاكاروسات وذلك لتوافر درجات الحرارة والرطوبة المناسبة للتكاثر والتطور والانتشار وبالتالي زيادة خسائر الإنتاج النباتي . بينما ارتفاع درجات الحرارة في بعض المناطق يؤدي إلي انخفاض سقوط الأمطار وبالتالي قلة أو اختفاء الغطاء النباتي وبدوره اختفاء أو قلة بعض الآفات في تلك المناطق أو هجرتها إلي مناطق جديدة لم تتواجد فيها مسبقا ولم تتخذ فيها إجراءات الوقاية والمكافحة مما يسبب إحداث الضرر في تلك المناطق الجديدة ولذا تلعب التغيرات المناخية دور هام في انتشار وتوزيع الآفات .
ونجاح إستراتيجية مكافحة الآفات تعتمد علي قياسات التنبؤ بآفة معينة أو أكثر تحت ظروف مناخية محددة . ويتحقق ذلك من خلال قياسات ودراسة تأثيرات العوامل المناخية في منطقة معينة علي تواجد وتكاثر وانتشار الآفات و الأعداء الحيوية خلال فترة زمنية محددة علي محصول ما أو أكثر . وهذه الدراسة تتطلب قياس العوامل المناخية في تلك المنطقة بصفة منتظمة ( شهريا أو كل أسبوعين ) ولمدة 3 سنوات علي الأقل . وتتضمن تلك القياسات كل من درجات الحرارة ( متوسط درجات الحرارة اليومي ، درجة الحرارة القصوي في النهار ، درجة الحرارة الصغري في الليل ) ، متوسط الرطوبة النسبية ، فترات النهار و الليل ، سرعة
واتجاه الرياح ، فترات وكميات سقوط الأمطار ، الندي ، الضغط الجوي . وباستخدام معادلات التحليل الإحصائي يتم إيجاد العلاقات بين تلك العوامل المناخية وتواجد وتعداد الآفات و الأعداء الحيوية في تلك المنطقة خلال فترة زمنية محددة مثل الموسم الصيفي ، الخريفي ، الشتوي ، الربيعي . وخلال تلك الفترة يتم استكشاف وحصر أنواع الآفات و الأعداء الحيوية المتواجدة علي الغطاء النباتي وتحديد عدد الأجيال وفترة الجيل لكل آفة علي العوائل النباتية المختلفة بالإضافة إلي تحديد فترات البيات الشتوي والصيفي وفترات نشاط الآفات والطور الضار لكل افة ومعرفة العوائل النباتية الأولية والثانوية لكل آفة .
وتختلف تلك القياسات تبعا للمناطق المستهدفة سواء في الساحل الشمالي ، سيناء ، الوجه البحري ، وسط الصعيد ، جنوب الوادي تبعا للاختلافات البيئية . ومن خلال تلك القياسات يتم تحديد العامل المناخي ( أو أكثر ) المؤثر علي انتشار وتوزيع الآفات .
فعند ملائمة التغيرات المناخية للآفة أو الآفات سوف يحدث زيادة في التعداد وقد يصل إلي درجة الوباء بينما التغيرات غير الملائمة سوف تسبب انخفاض أو غياب تلك الآفة أو الآفات . وبالتالي يمكن التنبؤ بالإصابة مما يسهل تحديد التوقيت المناسب للمكافحة ولذا ارتباط حصر الآفات مع التغيرات المناخية يساهم في معرفة أنواع الآفات المتواجدة ومدي انتشارها وأضرارها وتحديد العوامل البيئية المتحكمة في انتشارها في المناطق المختلفة .
وسوف نتناول بعض العلاقات المتشابكة بين العوامل المناخية و الآفات حيث لكل نوع وطور من الآفات درجات حرارة ورطوبة مثلي يزداد فيها نشاطها بينما يقل ذلك النشاط عند درجات الحرارة الأعلى أو الأقل وقد تصل إلي درجة الموت وذلك لحدوث تغيرات كيمائية وفسيولوجية في أنسجة وأعضاء جسم الآفات . ومثال لذلك زيادة نشاط ديدان الأوراق والذبابة البيضاء والاكاروسات في فصلي الصيف والخريف نظرا لارتفاع درجات الحرارة والرطوبة بينما يزداد نشاط دودة ورق الكرنب في زراعات الكرنب و القرنبيط في فصل الشتاء . وعند درجات الحرارة المعتدلة في فصلي الربيع والخريف يزداد انتشار آفات المن و التربس والجاسيدز .
كذلك هناك تأثيرات متعددة لاختلاف الإضاءة علي فرص معيشة بعض الآفات حيث تلجأ العديد منهم إلي الاختباء أثناء النهار بينما تنشط ليلا بحثا عن الغذاء والتزاوج ووضع البيض ولذا تعتبر حشرات نشطة ليلية ومثال لذلك فراشات دودة ورق القطن وذلك لانخفاض درجات ليلا بينما تزداد الرطوبة النسبية خلال أشهر الصيف والخريف . كما تعتبر الأشعة تحت الحمراء ذات تأثير قاتل للبيض ويرقات الآفات ولذا تلجأ الإناث إلي وضع البيض علي السطح السفلي للأوراق بالإضافة إلي تواجد اليرقات وذلك لتجنب تلك الأشعة . كذلك تلجأ إناث حشرة المن إلي وضع بيض مخصب في النهار القصير خلال فصل الشتاء بينما تلجأ إلي التوالد البكري في النهار الطويل صيفا . كما تتميز الأفراد غير المجنحة للمن باللون الأخضر الغامق مع كبر حجمها في فصلي الشتاء والربيع بينما تكون ذات لون أصفر أو برتقالي وصغيرة الحجم في الصيف . بالإضافة إلي ذلك تدخل معظم الحشرات طور السكون في النهار القصير مع انخفاض درجات الحرارة في الشتاء بينما يزداد نموها عند زيادة الضوء ودرجات الحرارة في الصيف . ولذا تعتبر قياسات فترات الليل والنهار ودرجات الحرارة والرطوبة ذات أهمية لمعرفة انتشار وسلوك الآفات في المناطق المستهدفة وبالتالي ضرورة الاهتمام بنظم الإنذار المبكر لمكافحة العديد من الآفات قبل تزايد أعدادها .
و إذا انتقلنا إلي دور الرياح والتي تتأثر بالضغط الجوي نجد أن الحشرات ذات القدرة علي التحرك والطيران سوف تلجأ إلي ترك الأماكن غير الملائمة لمعيشتها نظرا لعدم ملائمة الظروف المناخية إلي أماكن أخري أفضل لمعيشتها وتتكيف في تلك الأماكن وتصبح ضارة لمحاصيل المناطق الجديدة . ومثال لذلك حشرة أنفاق أوراق الطماطم أو ثاقبات الثمار ( توتا ابسليوتا ) والتي هاجرت من مناطق أمريكا الجنوبية ذات الحرارة المرتفعة إلي مناطق شمال وجنوب البحر المتوسط ذات المناخ المعتدل واستطاعت التكيف مع الظروف المناخية في المناطق الجديدة و أحدثت أضرار شديدة لمحصول الطماطم . ولذا من الضروري استمرار عملية حصر الآفات بصفة منتظمة لمعرفة نوعية الآفات الجديدة في منطقة ما ومدي تأقلمها وأضرارها وكيفية مكافحتها في التوقيت المناسب . كذلك تعتبر اتجاه وسرعة الرياح ذات تأثيرات علي توزيع وانتشار الحشرات الصغيرة المجنحة في الحقول المتجاورة مثل المن و التربس و الجاسيدز والذبابة البيضاء بالإضافة إلي فراشات ديدان الأوراق وذبابة الفاصوليا وذبابة أوراق القرعيات وذبابة البصل . كذلك سرعة واتجاه الرياح ذات تأثيرات هام علي درجة حرارة ورطوبة البيئة مما يؤثر علي انتشار ونشاط الآفات .
والتغيرات المناخية أظهرت اختلافات في كميات و مواعيد سقوط الأمطار في مناطق عديدة من العالم فبعضها يتعرض للسيول و الفيضانات بينما مناطق أخري تتعرض لموجات الجفاف وقلة الأمطار . و تؤدي زيادة الأمطار إلي موت أطوار الآفات المتواجدة في التربة مثل يرقات و عذاري ديدان الأوراق بالإضافة إلي انخفاض الإصابة بحشرات المن و التربس . كما يقل نشاط بعض الحشرات عند تكثف السحب و الغيوم و ذلك لنقص ضوء الشمس بينما يؤدي عدم سقوط الأمطار إلي جفاف النباتات و بالتالي قلة تعداد الآفات التي تتغذي عليها .
و الجراد الصحراوي من الآفات المهاجرة إلي مصر من الدول الأفريقية المجاورة و تلحق أضرار شديدة بكافة المزروعات . و تتحكم العوامل المناخية في تكاثر و هجرة أسراب الجراد حيث تعمل زيادة الأمطار علي زيادة التكاثر في أماكن معيشتها بينما قلة الأمطار تعمل علي هجرة الجراد في شكل أسراب إلي مناطق جديدة بحثا عن الغذاء و بالتالي تحدث فيها الضرر . كذلك ارتفاع درجات الحرارة غير المناسبة بعد شروق الشمس تسبب تحركات حوريات الجراد إلي مناطق جديدة بالإضافة إلي تحكم اتجاه الرياح في طيران أسراب الجراد . و لذا تتحكم الأمطار ودرجات الحرارة و ضوء الشمس و الرياح و الضغط الجوي في تكاثر و هجرة و اتجاه الأسراب و سرعة طيرانها .
مما سبق يتضح ضرورة دراسة التغيرات المناخية في مصر و البلدان المجاورة و تبادل المعلومات لمعرفة أماكن تكاثر الجراد و تحركات أسرابه بغرض تحقيق المكافحة الفعالة لتلك الآفة .
و تواجد و انتشار الأعداء الحيوية ( المفترسات و الطفيليات ) يتوقف علي الظروف المناخية الملائمة لمعيشتها بالإضافة إلي تواجد الآفات المستهدفة و الغطاء النباتي . كذلك هناك تأثيرات للتغيرات المناخية علي تواجد و هجرة الطيور النافعة من أوربا خلال فصلي الخريف و الشتاء إلي المناطق الدافئة و بالتالي حدوث اختلال في التوازن البيئي مع الآفات .
و لذا تحقق دراسات التغيرات المناخية مع الآفات و الأعداء الحيوية إمكانية التنبؤ بمدي الإصابة بآفة ما أو أكثر في منطقة معينة و تحت ظروف مناخية محددة بالإضافة إلي وضع إستراتيجية لمكافحة الآفات و تحديد مواعيد و عدد مرات الرش . كذلك إمكانية زراعة بعض المحاصيل في فترات تتميز بانخفاض تعداد الآفة علي المحصول و بالتالي تقليل تكاليف عمليات المكافحة و مثال لذلك تأخير زراعة الفاصوليا إلي شهر سبتمبر بدلا من أغسطس لتقليل الإصابة بذبابة الفاصوليا .
و نجاح دراسات التنبؤ تتطلب التعاون المستمر مع الدول المتجاورة لمعرفة حركة الآفات و العوامل البيئية المؤثرة علي انتشارها في تلك الدول . كذلك تساهم طرق المكافحة الزراعية و الميكانيكية و الحيوية في تقليل استخدام المبيدات الكيمائية و بالتالي تقليل التغيرات المناخية.
هذا ماتحتاجه عملية مواجهة التغيرات المناخية في مصر
و عموما مواجهة التغيرات المناخية تتطلب إنشاء قاعدة بيانات علي غازات الاحتباس الحراري في المناطق المختلفة في مصر . و في القطاع الزراعي ضرورة الاهتمام ببرامج التربية لاستنباط أصناف نباتية تتحمل درجات الحرارة و نقص المياه و الملوحة و رفع كفاءة الري و استخدام طرق الري بالتنقيط و ترشيد استخدام المياه في الاستخدامات المنزلية . كما تتضمن زيادة دور أجهزة الإرشاد الزراعي في نقل المعلومات المرتبطة بالتغيرات المناخية إلي المزارعين و كيفية مواجهة اثار تلك التغيرات من خلال اختيار المناطق و المواعيد المناسبة لزراعة كل محصول .
مقال
قياسات تأثيرات التغيرات المناخية علي الآفات
أ.د. رمضان محمد فراج
رئيس بحوث – قسم بحوث آفات الخضر والزينة والنباتات الطبية والعطرية – معهد بحوث وقاية النباتات
المصدر
عدد أبريل 2021 من الصحيفة الزراعية الصادرة عن إدارة الثقافة الزراعية بقطاع الإرشاد الزراعي بوزارة الزراعة
اقرأ أيضا
زراعة أصناف القطن .. “مسعد” يكشف سبب إصدار قرار سنوي بتحديد أماكنها
الحجر الزراعي ودوره في الحفاظ على سمعة الصادرات المصرية
لا يفوتك
تعرف على اجراءات تحليل العينات الخاصة بجودة المحاصيل الزراعية بالمعمل المركزى للمبيدات