لطالما نُظر إلى مفاهيم “الاستدامة” و”الزراعة الخضراء” على أنها أفكار مثالية، أو حتى نوع من الرفاهية التي لا تستطيع الدول النامية تحمل تكلفتها. ولكن الحقيقة العلمية والواقع العملي يثبتان العكس تماماً. في ظل التحديات المائية المتزايدة، وتدهور خصوبة التربة، وتأثيرات التغير المناخي، لم تعد الزراعة الخضراء المستدامة خياراً، بل هي السبيل الوحيد لضمان الأمن الغذائي والمائي لمستقبل مصر.
الزراعة الخضراء المستدامة ليست مجرد العودة إلى الأساليب التقليدية، بل هي نظام متكامل يعتمد على العلوم الحديثة لتحقيق أقصى كفاءة إنتاجية مع الحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.
الركائز العلمية للزراعة الخضراء المستدامة
تقوم الزراعة الخضراء المستدامة على عدة مبادئ علمية أساسية:
1. إدارة الموارد المائية بكفاءة (الري الذكي):
لا يخفى على أحد أن مصر تواجه تحدياً مائياً حقيقياً. تشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو FAO) إلى أن القطاع الزراعي هو الأكثر استهلاكاً للمياه على مستوى العالم. الحل لا يكمن في تقليل المساحات المزروعة، بل في رفع كفاءة الري. تقنيات مثل الري بالتنقيط والري التحت سطحي تقلل الفاقد من المياه بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بالري بالغمر (Pereira et al., 2002). كما أن استخدام مستشعرات رطوبة التربة ونمذجة احتياجات النبات المائية (Evapotranspiration) يضمن تقديم الكمية المناسبة من الماء في الوقت المناسب.
2. إدارة خصوبة التربة المتكاملة:
التربة ليست مجرد وسط لتمدد الجذور، بل هي نظام حيوي معقد. الزراعة التقليدية المعتمدة على الأسمدة الكيماوية أدت إلى تملح التربة وتدهور بنيتها. تعتمد الزراعة المستدامة على:
تناوب المحاصيل: لتحسين خصوبة التربة وكسر دورة الأمراض والحشائش.
استخدام الأسمدة العضوية والمخلفات الزراعية (الكمبوست): مما يعزز المحتوى العضوي في التربة، ويحسن قدرتها على الاحتفاظ بالماء، ويقلل من انبعاثات الكربون.
زراعة محاصيل التغطية: مثل البرسيم والبقولية، لحماية التربة من التعرية وإضافة النيتروجين لها بشكل طبيعي (التثبيت الحيوي).
3. المكافحة المتكاملة للآفات (IPM):
بدلاً من الاعتماد الكلي على المبيدات الكيماوية التي تضر بالبيئة والصحة العامة وتؤدي إلى ظهور سلالات مقاومة من الآفات، تتبنى المكافحة المتكاملة استراتيجيات ذكية مثل:
المكافحة الحيوية: باستخدام الأعداء الطبيعية للآفات (مثل بعض أنواع الحشرات النافعة أو الفطريات).
الممارسات الزراعية الجيدة: مثل اختيار الأصناف المقاومة وتنظيف الحقول.
المراقبة المستمرة: لاتخاذ قرار المكافحة في الوقت المناسب فقط عند تجاوز الحد الحرج الاقتصادي للآفة.
4. التكيف مع التغيرات المناخية:
تؤكد الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخIPCC) ) على أن الزراعة من أكثر القطاعات تأثراً بالتغير المناخي. يمكن للزراعة المستدامة أن تكون حلاً من خلال:
اختيار محاصيل وأصناف تتحمل الجفاف والملوحة والحرارة.
تبني أنظمة الزراعة الذكية مناخياًClimate-Smart Agriculture) ) التي تهدف إلى زيادة الإنتاجية، وتعزيز المرونة، وتخفيض الانبعاثات.
أهمية الزراعة الخضراء المستدامة لمصر: لماذا هي ضرورة حتمية؟
1. ترشيد استهلاك المياه: مع الضغط المتزايد على حصة مصر من مياه النيل، يصبح كل نقطة ماء ثمينة. تحويل نظام الري من الغمر إلى أنظمة الري الحديثة هو استثمار في مستقبل مصر المائي، وهو أحد أهداف “مشروع تحديث الري” الذي تتبناه الدولة.
2. زيادة الإنتاجية وتحسين الجودة: تحسين صحة التربة وتبني الممارسات العلمية يؤديان إلى زيادة في المحصول وجودة أعلى للمنتج، مما يعزز قدرته على المنافسة في الأسواق التصديرية، خاصة مع تزايد الشروط والمعايير البيئية “المعايير الخضراء” في الأسواق الأوروبية.
3. خفض التكاليف على المزارع: على المدى الطويل، تقلل الزراعة المستدامة من الاعتماد على المدخلات باهظة الثمن مثل الأسمدة والمبيدات الكيماوية، مما يخفض تكاليف الإنتاج ويزيد من هامش ربح المزارع.
4. حماية البيئة والصحة العامة: تقليل التلوث الناتج عن تسرب الأسمدة والمبيدات إلى المياه الجوفية والتربة، مما ينعكس إيجاباً على صحة المواطن ويحافظ على التنوع البيولوجي.
5. تعزيز الأمن الغذائي: من خلال بناء نظام زراعي مرن قادر على مواجهة الصدمات المناخية والاقتصادية، وضمان إنتاج غذاء كافٍ وآمن للأجيال الحالية والمقبلة.
إن الزراعة الخضراء المستدامة ليست موضة عابرة أو ترفاً فكرياً. إنها منهج علمي وعملي أثبتت نجاحه globally وهو الطريق الوحيد أمام مصر لمواجهة تحدياتها المائية والمناخية والغذائية. وتحقيق هذه الرؤية يتطلب:
تعزيز دور البحث العلمي: في تطوير أصناف محاصيل متلائمة مع الظروف المصرية وتقنيات زراعية مبتكرة منخفضة التكلفة.
توعية وتمكين المزارع المصري: فهو حجر الزاوية في هذه المنظومة، من خلال برامج الإرشاد الزراعي الفعالة والحوافز.
دعم سياساتي من الدولة: من خلال تسهيل الحصول على مستلزمات الزراعة المستدامة (مثل أنظمة الري الحديثة، الأسمدة العضوية) وتطبيق حوافز للمزارعين الملتزمين بالممارسات الخضراء.
يعتبر الاستثمار في الزراعة الخضراء المستدامة اليوم هو استثمار في مستقبل مصر. إنها الضمانة لاستمرار عطاء الأرض، ووجود قطرة ماء، وحصاد قمح يكفي لشعبها. إنها ببساطة، ليست رفاهية.
المراجع العلمية:
Food and Agriculture Organization (FAO). (2021). The State of the World’s Land and Water Resources for Food and Agriculture – Systems at breaking point. Rome.
Pereira, L. S., Oweis, T., & Zairi, A. (2002). Irrigation management under water scarcity. Agricultural Water Management, 57(3), 175-206.
IPCC. (2022). Climate Change 2022: Impacts, Adaptation and Vulnerability. Contribution of Working Group II to the Sixth Assessment Report of the Intergovernmental Panel on Climate Change. Cambridge University Press.
Pretty, J. (2008). Agricultural sustainability: concepts, principles and evidence. Philosophical Transactions of the Royal Society B: Biological Sciences, 363(1491), 447-465.
Altieri, M. A. (2018). Agroecology: the science of sustainable agriculture. CRC Press.
مقال
الأستاذ الدكتور/ مجدي فاروق السماحي
أستاذ النانوتكنولوجي ووقاية النبات – معهد بحوث وقاية النباتات – مركز البحوث الزراعية
وكيل محطة البحوث الزراعية بسخا الأسبق
رئيس فرع الاتحاد العربي للتنمية المستدامة والبيئة بكفر الشيخ
مسئول برنامج مطبقي المبيدات بمحافظة كفر الشيخ
المشرف العلمي لدودة الحشد الخريفية بمحافظة كفر الشيخ
عضو مجلس إدارة جمعية مجلس علماء مصر
عضو لجنة أخلاقيات البحث العلمي بجامعة كفر الشيخ
مستشار مجلس إدارة المجلة العلمية أهرام قسم العلوم
أمين حزب حماة الوطن بكفر الشيخ الأسبق