بقلم الدكتور : على عبدالنبي
نائب رئيس محطات الطاقة النووية السابق
هناك العديد من الاستخدامات السلمية للطاقة النووية،
لا يتوقف استخدام الطاقة النووية على الأسلحة النووية وعلى إنتاج الكهرباء، لكن هناك العديد من الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، ومن أهمها الاستخدام فى مجال الطب وفى مجال الزراعة. فقد تم ترويض الطاقة النووية لاستخدامها الاستخدام الآمن فى مجالات عديدة.
تلعب الطاقة النووية دورا كبيرا فى تطوير تكنولوجيا الزراعة، ومساعدة المجتمعات الزراعية على زيادة إنتاج المحاصيل من خلال استنباط أصناف جديدة من البذور، ومكافحة الآفات والأمراض مما يجعل المحاصيل أكثر مناعة ضد هجمات الآفات والأمراض المختلفة، وتحسين جودة المياه والتربة والأسمدة، ومعالجة الأثر البيئى للمخلفات الضارة من مبيدات الآفات والحشرات، وكذلك الحفاظ على الأغذية ومعالجتها وخفض معدلات الفاقد منها.
التكنولوجيا النووية تستخدم الإشعاع لتحسين إنتاجية السلسلة الغذائية بأكملها بطريقة جوهرية. العناصر المشعة هى عناصر غير مستقرة، وهناك طاقة نووية طبيعية تلقائية تخرج فى صورة أشعة من نواة الذرات الغير مستقرة. وتصدر نوى الذرات الغير مستقرة جسيمات (أشعة)، وهى جسيمات ألفا (α) أو بيتا (β) أو تصدر إشعاع كهرومغناطيسي مثل جاما (γ). الذرات الغير مستقرة يحدث لها تحلل إشعاعى وهو تفاعل تلقائى. العناصر الكيميائية التى ذراتها غير مستقرة، تسمى نظائر مشعة، وهى عناصر مشعة طبيعية. كما يمكن تصنيع النظائر المشعة بعد عملية تشعيع، وهى عناصر مشعة صناعية. تستخدم النظائر المشعة فى تطبيقات متعددة، فى العديد من جوانب الحياة الحديثة.
مكافحة الحشرات والآفات والأمراض باستخدام النظائر المشعة أصبح يتم على نطاق واسع، ذلك لأن الآفات والحشرات لها القدرة على اكتساب مناعة لمقاومة المبيدات الكيماوية المعتاد استخدامها، مما يجبر المزارعين على استخدام كميات أكبر من المبيدات الحشرية، وبذلك تزداد سميتها. ويسمح استخدام تكنولوجيا التشعيع فى الحد من استخدام مبيدات الحشرات والآفات والمواد الكيميائية السامة الأخرى. وهناك نهج للحد من تدمير الحشرات للزراعات، من خلال استخدام المحاصيل المعدلة وراثيا، بحيث تكون هناك حاجة أقل بكثير للمبيدات الحشرية، كما أن هناك نهجا آخر هو إحداث عقم لذكور الحشرات.
لقد أدى الوعى المتزايد بالآثار الضارة لاستخدام مبيدات الحشرات والآفات على الصحة العامة والبيئة، إلى بذل جهود لمكافحة الحشرات والآفات من خلال إحداث عقم لذكور الحشرات “تقنية الحشرات العقيمة” بواسطة التشعيع، والتى يتم فيها استخدام التشعيع بأشعة جاما أو الأشعة السينية لإحداث عقم لذكور الحشرات التى تربى فى المختبر. والآن أصبح هذا الأسلوب الأكثر استخداما فى مكافحة الحشرات.
يتم تربية أعداد كبيرة من الحشرات التى يتم إحداث عقم للذكور، وإطلاقها فى بيئتها الطبيعية. تظل الحشرات العقيمة قادرة على المنافسة فى التزاوج، لكنها لا تستطيع إنتاج ذرية، مما يقلل من تعداد الحشرات بمرور الوقت ويؤدى فى النهاية إلى الحد من الزيادة فى تعدادها ومع الوقت يتم القضاء عليها. تعتبر هذه الطريقة صديقة للبيئة، فالحشرات العقيمة تحقق هدفين فى وقت واحد، فهى تعمل كحل آمن بيئيا لمكافحة الحشرات، كما تعزز من القضاء على هذه الحشرات الضارة.
نجحت طريقة إحداث عقم لذكور الحشرات منذ طرحها. وبهذه الطريقة تم التحكم والسيطرة بنجاح على أعداد عدد من الحشرات البارزة، بما فى ذلك: البعوض، والعث، والدودة الحلزونية، وذبابة التسى تسى، وأنواع مختلفة من ذبابة الفاكهة “ذبابة فاكهة البحر الأبيض المتوسط، ذبابة الفاكهة المكسيكية، ذبابة الفاكهة الشرقية، وذبابة البطيخ”.
التربة جزء مهم جدا من البيئة الزراعية، وهى مورد رئيسى يساهم فى بقاء الإنسان وتنميته. نتيجة تغير المناخ، والتحضر، والتصنيع، وتنمية الموارد المعدنية، والزراعة المكثفة، الخ، أدى إلى تدهور التربة. لذلك، فإن القياس الفعال لصحة التربة وتدهورها والتحكم فى الانبعاثات المفرطة للغازات الدفيئة وملوثات التربة وإدارتها هما وسيلتان مهمتان لتحسين إنتاجية التربة.
خصوبة التربة والمغذيات وكفاءة استخدام المياه لمنع تآكل التربة وتدهور النباتات، تعتبر من الأمور الهامة جدا، وبالتالى نجد أن تكنولوجيا التشعيع توفر البيانات الأساسية لتطوير استراتيجيات فعالة لإدارة التربة والمياه لحماية صحة التربة وجودة المياه من أجل إنتاج محاصيل مستدامة.
نظراً لأن المتطلبات الغذائية للمحاصيل تختلف اختلافاً كبيراً حسب نوع التربة والظروف المناخية وأنواع النباتات، فإن المعرفة الدقيقة بشأن نوع وكمية وطريقة ووقت تطبيق أنسب الأسمدة للتربة مهمة جدا. ومع توافر النظائر المستقرة والنظائر المشعة للعديد من المغذيات النباتية مثل كربون-13، الهيدروجين، النيتروجين-15، الفوسفور-32، الكبريت-35، الحديد-59، منجنيز-54، الزنك-65، إلخ، تجعل من الممكن التحقق من خصوبة التربة والمغذيات وكفاءة استخدام المياه.
تعتمد الزراعة حاليا على حوالى 70 ٪ من المياه العذبة العالمية. ومع تزايد ندرة المياه العذبة، بسبب الاستخدام العشوائى وتغير المناخ نتيجة الظواهر الجوية المتطرفة من الجفاف والفيضانات، هناك حاجة ملحة لتحسين إدارة المياه. النظائر والتكنولوجيا النووية أدوات مفيدة وفعالة لتقييم حالة مياه التربة، ولتتبع حركة مياه التربة وتحديد النقاط الساخنة التى تؤدى إلى تدهور الأراضى نتيجة الرواسب التى تؤثر على جودة المياه.
فى إدارة مياه رى الأراضى الزراعية، استخدمت التكنولوجيا النووية “النظائر المشعة”، مما ساعد فى إحداث تأثير مفيد للغاية على الاستخدام المستدام لموارد المياه العذبة. منها تحسين جدولة الرى من خلال مراقبة التربة بدقة من أجل تقليل فقد المياه، والمساعدة فى اختيار المحاصيل ذات التحمل العالى للجفاف وزيادة إنتاجية المياه للمحاصيل. كما استخدمت النظائر المستقرة لقياس وفرة الأكسجين والكربون والنيتروجين والهيدروجين فى التربة والمياه والنبات، من أجل المساعدة فى تحديد مصادر تدفقات المغذيات وتوزيع المياه والعناصر الغذائية المختلفة بالتساوى فى جميع أنحاء التربة.
الأسمدة وإدارتها مهمة جدا وخاصة وأنها باهظة الثمن، وإذا لم تستخدم بشكل صحيح يمكن أن تسبب تلوث المياه. وإدارة الأسمدة تعمل على تقليل كمية الأسمدة المستخدمة، وتقلل من نسبة فقدها فى البيئة حيث تقلل من أى ضرر بيئى، وتعظم بأكبر قدر ممكن من امتصاص النباتات للأسمدة. توفر الأسمدة التى تحتوى على نظير معين، مثل النيتروجين-15 أو الفوسفور-32، تعتبر وسيلة لمعرفة الكمية التى يمتصها النبات والمقدار المفقود منها، مما يسمح بإدارة أفضل لاستخدام الأسمدة. يتيح استخدام النيتروجين-15 أيضاً تقييم مقدار النيتروجين المثبت من الهواء عن طريق التربة وبكتيريا الجذر فى البقوليات.
وجد العديد من المزارعين فائدة فى تقليل كمية الأسمدة التى يستخدمونها فى إنتاج غلات بكميات كبيرة. فعلى سبيل المثال، فقد أدى ذلك إلى زيادة محصول الذرة بنسبة 50%، وخفضت كمية الأسمدة المستخدمة بنسبة 70% باستخدام التقنيات التى تيسر تثبيت النيتروجين.
تعرف الطفرات بأنها التغيرات الوراثية الفجائية فى الكائن الحى، بحيث يصبح النسل الناتج مختلفا فى شكله وحجمه وتركيبه، حيث تحدث تغيرات فى الجينات وتغيرات فى تركيب الكرموسومات. وتنتج الطفرات عامة، سواء كانت تلقائية أو مستحثة، من تغييرات واسعة النطاق تنطوى على حذف أجزاء من الكروموسومات أو انعكاس اتجاهها أو تغيُّر مواضعها.
فى عمليات التكاثر الطفرى للنبات استخدم الإشعاع المؤين – مثل “أشعة جاما أو الأشعة السينية وجسيمات ألفا وبيتا والنيوترونات السريعة والأشعة فوق البنفسجية، جنبا إلى جنب مع تقنيات أخرى – فى حث البذور على حدوث طفرات فى تربية النباتات وإنتاج أنواع وراثية جديدة من البذور ذات غلات أعلى ومقاومة الأمراض والآفات، وأكثر قدرة على التكيف مع الظروف المناخية القاسية، وجودة أعلى للمحصول، ونضج أسرع، أى أن فترة نمو قصيرة، مما يسمح للمزارعين بزراعة محاصيل إضافية خلال نفس الموسم، مما يساعد البلاد الفقيرة على ضمان الأمن الغذائى، والتصدى للمجاعة الموسمية. وبهذه الطريقة فقد تم تطوير حوالى 3200 نوع جديد من المحاصيل، منها محاصيل الجذور والدرنات والحبوب ومحاصيل البذور الزيتية، وتطوير أنواع جديدة من الذرة الرفيعة والثوم والقمح والموز والفاصوليا والفلفل. وأحد الأمثلة الشهيرة لمحصول ناجح هو الأرز “المعجزة” الذى زاد من معدل إنتاج الأرز بشكل كبير، وأدى إلى تراجع مخاطر المجاعة خاصة فى الدول الأسيوية.
كما تم تطوير أنواع مختلفة من الأرز يمكنها تحمل آثار تغير المناخ، وهى سلالات أرز مقاومة للجفاف والفيضانات وارتفاع ملوحة التربة ودرجات الحرارة. وكذلك تطوير أنواع مختلفة من الأرز للمساعدة في معالجة سوء التغذية، وهو ما يسمى بـ “الأرز الذهبى”، وهو سلالة معدلة وراثياً مصممة لمعالجة نقص فيتامين أ، والذى يتسبب فى موت 670 ألف طفل دون سن الخامسة سنوياً. كذلك تم تطوير سلالات من الأرز ذات مؤشر منخفض لنسبة السكر فى الدم، وهذا يعنى أنه بمجرد هضم الأرز يطلق طاقته ببطء، مما يحافظ على استقرار مستويات السكر فى الدم – وهو جزء مهم من إدارة مرض السكر.
أشكركم وإلى أن نلتقى فى مقالة أخرى لكم منى أجمل وأرق التحيات.